د. عبدالحليم قنديل يكتب.. هزيمة مزدوجة

د. عبدالحليم قنديل يكتب.. هزيمة مزدوجة

Share on facebook
Share on twitter
Share on linkedin
Share on pinterest
Share on tumblr
Share on telegram
Share on whatsapp


فى أى حرب تراعى فيها أبسط الأخلاقيات والقوانين المرعية ، تكون المستشفيات بعيدة عن أى قتال ، لكن جيش الاحتلال فى حربه الهمجية الدائرة ، يحارب المستشفيات كأنها قلاع مسلحة ، ويعتبر اقتحامه الوحشى لمبانى مجمع “الشفاء” انتصارا حربيا عظيما (!) ، ويفخر بإطلاق الرصاص على المرضى والرضع والأطباء والنازحين المحتمين بحوائط أكبر مستشفيات مدينة “غزة” ، وعمره أطول من عمر كيان الاحتلال نفسه ، فقد أقيم “مجمع الشفاء” عام 1946 ، أى فى ظل الانتداب والاحتلال البريطانى ، الذى سلم فلسطين لعصابات الإرهاب والقتل الصهيونى .
وربما لا يكون من وجه للعجب ولا للتعجب ، لا من سلوك جيش الاحتلال البربرى ، ولا من سلوك “البيت الأبيض” المنافق المتورط ، الذى أيد رئيسه اقتحام مستشفى “الشفاء” ، وبدعوى احتمال وجود أنفاق ومراكز قيادة لحركة “حماس” فى المستشفى أو تحت مبانيه ، وهى فرية رخيصة ، رددها كيان الاحتلال من سنوات ، استنادا لما يسميه مصادر موثوقة (!) ، وبدت الغباوة ظاهرة فى أكمل معانيها ، مع إعادة تدوير الزعم نفسه قبل أسابيع ، وكأن حركة “حماس” ، وجناحها العسكرى الذى أذل جيش الاحتلال ، وداس رءوس قادته ومخابراته وأجهزته الأمنية ، كأن حركة “حماس” كانت تغفل عن الادعاءات “الإسرائيلية” ، وتظل محتفظة بمراكز قيادة مفترضة فى مستشفى “الشفاء” ، أو فى أى مستشفى آخر ، وتنتظر لسنوات ساعة اقتحامها من جيش الاحتلال ، وتسلم مراكزها طواعية لجيش الاحتلال ، ولا تنقل مراكز قيادتها المزعومة لمكان آخر (!) ، وقد طلبت حركة “حماس” مبكرا تحقيقا دوليا أو حتى أمريكيا فى المزاعم ، وتحدت “تل أبيب” ومعها “واشنطن” ، أن تكشف للناس حقيقة وجود أنفاق ومراكز قيادة مزعومة ، ولم تستجب “واشنطن” بالطبع ، برغم إدعاءاتها العريضة الكاذبة عن حماية المدنيين والمرضى وحقوق الإنسان ، وكلها أكاذيب سقطت فى امتحان فلسطين وعذاب “غزة” وأهلها ، تماما كما سقطت وتسقط قبلها وبعدها أكاذيب لا تحصى ، لعل أشهرها كما يتذكر الكل ، زعم امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل ، الذى كلفوا الجنرال “كولين باول” وزير خارجية أمريكا الأسبق ، أن يذيعه من فوق منبر الأمم المتحدة ، وكان أداؤه ركيكا ، وقدم صورا لشاحنات نقل عادية ، قال بأن مخابرات بلاده “اللوذعية” ، تؤكد أنها مخازن لأسلحة كيماوية وجرثومية محظورة ، وبعد أن تحقق الهدف بغزو العراق وتحطيم دولته ، عاد نفس أبطال العرض المسرحى الكذوب ، وأكدوا أنهم لم يجدوا شيئا مما أوهموا العالم بوجوده ، وكانت فضيحة لا تنسى ، هى ذات الفضيحة التى يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلى اليوم ، مع إذاعة مشاهد مفبركة من “بدروم” فى مستشفى “الرنتيسى” للأطفال ، تتحدث عن ستارة معلقة على جدار كأنها سر حربى (!) ، وعن لوحة كهرباء باعتبارها باب الجحيم (!) ، وعن فتحة تهوية باعتبارها مدخلا لأنفاق “حماس” تحت الأرض ، وهو ما يكشف مجددا عن بؤس تفكير جيش الاحتلال ، وعن التواطؤ الميكانيكى من “البيت الأبيض” ، الذى ردد رئيسه كذبة قطع مقاتلى المقاومة لرقاب أطفال “إسرائيليين” ، ثم قال لاحقا ، أنه لم يطلع على أى شريط “فيديو” يؤكد حدوث الواقعة ، ولا سواها من مزاعم اغتصاب النساء فى هجوم 7 أكتوبر ، ثم لم يجرؤ الرئيس “جو بايدن” على الاعتذار عن أخطائه الفادحة ، ولا راجع نفسه أبدا ، وهو يرى بأم عينيه قتل جيش الاحتلال لآلاف مؤلفة من الرضع والأطفال والنساء فى “غزة” ، ويلجأ إلى صمت القبور، ومن دون أن يغلق “بالوعة” مزاعمه الإنسانية الأخلاقية الكاذبة ، بل عاد إلى العزف “الببغائى ” على أنغام الأكاذيب “الإسرائيلية” ، وتصوير المستشفيات الفلسطينية كأنها منشآت حربية ، يدخلها الجيش “الإسرائيلى” كأنه قهر الأعداء وحطم الحصون ، ويلتقط الصور التذكارية على أنقاض المبانى وجثث المدنيين ، أو فى بهو مبنى المجلس التشريعى الفلسطينى فى “غزة” ، وكأنه بذلك حقق هدف الحرب ، ووجه الضربة القاضية لحركة “حماس” ومقاتليها ، الذين يخرجون له من حيث لا يعلم ، ويدمرون آلياته العسكرية بالجملة ، ويقتلون ضباطه وجنوده ونخبته فى غمضة عين ، ويسخرون من ركاكة “الموساد” و”الشاباك” و”المخابرا ت المركزية الأمريكية” معا ، وكلها صدعت أدمغتنا بتقارير عن وجود مركز قيادة “حماس” الرئيسى فى نفق تحت مبانى مجمع “الشفاء” ، وأنه لا بد من اقتحامه لاعتقال “يحيى السنوار” و”أبوعبيدة” و”محمد الضيف” ، واستعادة الأسرى “الإسرائيليين” والأمريكيين المحتجزين مع القادة فى ذات النفق الموهوم ، وفجر يوم الاقتحام الموعود ، أعلن جيش الاحتلال أنه ينفذ عملية محددة ودقيقة جدا ، ثم تمخض جبل التدبير والتخطيط والتنفيذ فولد فأرا “إسرائيليا” ، إذ لم يجدوا نفقا ولا مركز قيادة ولا أسرى ولا يحزنون ، وكانت هزيمة مزدوجة لتل أبيب وواشنطن ، التى تنصلت من الجريمة كلها بعد فوات الأوان .
وهنا جوهر المأزق الذى يواجه جيش الاحتلال فى “غزة” ، فهو يدرك يقينا ، أن ليس بوسعه تعقب وإفناء المقاتلين المقاومين ، الذين ينصبون له كمائن الموت فى كل مكان ، ومن دون أن يعنى توغله البرى فى مدينة “غزة” وجوارها شيئا ، اللهم إلا إتاحة الفرص للمقاومة القادمة من الأنفاق ، واستدراج جيش الاحتلال إلى حتفه من وراء أنقاض المبانى ، وحتى لو افترضنا جدلا ، أن جيش الاحتلال واصل الغوص فى رمال “غزة” ، وأقدم على إعادة احتلالها كلها إن استطاع ، فسوف يجد مصائد الموت فى انتظاره ، ولن يجرؤ ضباطه وجنوده على القتال وجها لوجه ، ومن المسافة “صفر” القاتلة ، ولن يستطيع ستر خيبته بجرائمه ، وتدميره للبشر والحجر وكل موارد الحياة ، ومهما قتل من المدنيين ، وحتى لو قتل خمسين ألفا ، فلن يصنع له ذلك صورة انتصار قابلة للتصديق ، وكل ما سيحدث ، أن دم الفلسطينيين المراق ، سيكون لهيبا مضافا ، يذكى شعور المقاومة ويعزز جيوشها ، ويضاعف رغبة الانتقام والقصاص العادل من المجرمين ، و”غزة” التى أرسلت “رابين” و”شامير” و”شارون” إلى مزابل التاريخ ، هى “غزة” ذاتها ، التى سترسل “نتنياهو” و”جالانت” و”جانتس” إلى مكب النفايات نفسه ، و”غزة” الولادة لأصلب حركات المقاومة ، سوف تلد من عذابها جيوشا جديدة ، وصرخة الجنرال “اسحق رابين” التى أطلقها ذات يوم ، وكان منطوقها “أتمنى أن أصحو من النوم . فأجد غزة غرقت فى البحر” ، ولن تغرق غزة فى البحر أبدا ، ولن يفنى سكانها أو يهاجرون ، وحين تخرج من عذابها اليوم ، ومن مآسى دماء أبنائها التى تسيل كالأنهار ، سوف تخرج منتصرة لروحها العفية التى لا تهمد ، وتعاود دورها التاريخى كقدس أقداس المقاومة الفلسطينية ، وقد أرغمت الجنرال “شارون” على الخروج وتفكيك المستعمرات اليهودية فيها ، وهى قادرة اليوم وغدا على تجديد وعدها البطولى ، وتهزأ بما يدبرونه لها ، فمن قلب مآسى ودمار غزة الرهيب ، يولد اليوم التالى المضئ لفلسطين كلها ، وهو قادم حتما مهما تلكأت المواعيد .
والمحصلة فيما جرى ويجرى حتى اليوم ، وقد تعدت حرب “طوفان الأقصى” يومها الأربعين ، بينما يبدو الفارق ظاهرا بين النصر الحقيقى والنصر الرخيص المفتعل ، فقد يضع الجيش “الإسرائيلى” علمه هنا أو هناك ، على مبنى أو على مستشفى ، لكن ذلك لا يعنى نصرا عسكريا ولا سيطرة حقيقية دائمة للاحتلال ، الذى نفذ ما يفوق الألف مجزرة ضد أهل “غزة” ، وشن عليهم آلاف الغارات اليومية الجنونية ، وادعى أنه أغلق المئات من فتحات الأنفاق ، لكنه فى حساب السلاح وموازينه ، دخل إلى متاهة ودوامة ، لن يعود منها سالما بإذن الله ، فقد يملك المدافع والطائرات والصواريخ والقطع البحرية ، ويحصل على دعم وإسناد مباشر لحظى من واشنطن وحلف الأعداء الغربى ، لكن ذلك كله مهما اجتمع وتساند ، لا يؤهل العدو لنصر حقيقى ، ولن يعالج جروح جيش الاحتلال الغائرة ، وقد سقطت هيبته الموهومة صباح السابع من أكتوبر ، وثبت أن الهزيمة قدره الذى لا يرد ، وأن الإذلال مصيره الباقى ، مهما بلغت عذابات شعب فلسطين فى “غزة” ، التى تحولت إلى فلسطين مصغرة مكثفة مقطرة ، فيها كل آلام الفلسطينيين ومعاناة أجيالهم ، وفيها كل صنوف المحنة الفريدة التى دهستهم عقودا ، لكنها صهرتهم وخلقتهم خلقا جديدا ، يذهل العالم بصلابته الروحية ، وبولادته لمقاومين من طراز نادر ، لا تهزمهم الريح السموم مهما اشتدت ، ولا يضرهم خذلان من خالفهم ، ولا ظلم الدنيا مهما اجتمع عليهم ، ويكتبون بدمائهم فصول العودة إلى فلسطين التى حلموا بها ، وشفعوا حلمهم بعملهم المقاوم العبقرى ، الذى يصنع ما تصوره الآخرون فى باب المستحيلات ، فغزة هى العنقاء والخل الوفى وقبلة الحرية فى صلاة الأوطان .
[email protected]

قد يعجبك أيضًأ